المدونة القانونية
نظرة في الطعن 4 لسنة 2023 قرارات الهيئة العامة لمحكمة تمييز دبي

بسم الله الرحمن الرحيم
بتاريخ 24/10/2023، صدر قرار الهيئة العامة لمحكمة تمييز دبي في الطعن 4 لسنة 2023 مرسياً مبدأً جديداً مفاده أن الأصل في الناس هو الإعسار وأن اليسار عارض، وأنه يتعين -تبعاً لذلك- على طالب التنفيذ أن يثبت يسار خصمه المنفذ ضده أو تهريبه لأمواله كي يستصدر أمراً بضبطه وإحضاره ثم حبسه لإكراهه بدنياً على السداد. وكما هو متوقع، أحدث هذا القرار ردود فعل كثيرة ومتنوعة، سيما وأنه قرار نوعي يقلب كثيراً من الأوضاع المعتادة رأساً على عقب ويغير من الحالة الاجتماعية السائدة الشيء الكثير. وقد استندت الهيئة العامة لمحكمة تمييز دبي في قرارها هذا إلى الشريعة الإسلامية الغراء، حيث جاء القرار مشيراً إليها قائلاً أن الأصل -في الشريعة الإسلامية- هو الإعسار في الناس، ويسارهم عارض، ثم حرر نص المادة الإجرائية المعالجة لموضوع حبس المدين، وفسره تفسيراً يتماشى مع الأصل آنف الذكر، منتهياً إلى تقرير هذه القاعدة التي قد يسميها بعض المطالعين "ثوريةً".
وإنه على ضوء هذا المبدأ وما أحدثه من مناقشات قانونية، يجيء هذا المقال باحثاً في سؤالين اثنين لا بد أن يثورا في ذهن القانوني الحاذق، وهما:
1- هل الأصل في الشريعة الإسلامية الغراء هو الإعسار أم اليسار، وهل يجب فيها على من يدعي يسار مدينه إثبات ذلك؟ وهل هذه القاعدة ثابتة مستقرة أم أنها محل خلاف؟
2- ما هو الأثر المترتب على القرار الصادر عن الهيئة العامة لمحكمة تمييز دبي؟ وما هو تقييم هذا الأثر وكيف يمكن تقديره نظرياً بشكل مبدئي؟
للإجابة على السؤال الأول، لا بد لنا أن نرجع إلى المراجع الشرعية المتخصصة للبحث في المسألة. وبمطالعة بعضها، يمكننا أن نظلل على بعض النقول الهامة التي تعين على الإحاطة بنظرة الشريعة الإسلامية للمسألة. من المراجع ذات الحظوة والأثر الكبير في الواقع العملي المعايير الشرعية الصادرة عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية المشهورة بأيوفي، فهذه المعايير تعتبر مرجعاً أساسياً لمعرفة أحكام المعاملات المالية عموماً والمصرفية خصوصاً في الشريعة الإسلامية، وقد صدرت هذه المعايير كما لو كانت قوانين، في مواد مفقرة وبنود مسطرة، تتناول الأحكام الشرعية لشتى المسائل الفقهية. وقد جاء في المعيار الشرعي الثالث المسمى "المدين المماطل" البند 2/6 بعنوان "ثبوت المماطلة"، ونصه هو الآتي: "تثبت المماطلة إذا تأخر المدين عن السداد في الموعد المحدد بعد المطالبة المعهودة ما لم يثبت المدين إعساره". فهذا النص يشير إلى أن عبء إثبات الإعسار واقع على عاتق المدين، لا الدائن.
ويمكن أن نجد لما جاء في المعايير الشرعية سنداً من بعض المتون الفقهية التي نقلتها الأستاذة أمل المرشدي في مقال لها منشور على موقع محاماة.نت بعنوان: "بحث قانوني ودراسة حول أوجه الإعسار في الفقه والقانون" (راجع المقال، منشور في 24/5/2023)، فقد نقلت فيه عن الشرح الصغير -أحد أهم كتب المالكية: "حُبِس المفلس بثبوت عسره إن جهل حاله، لا إن عُلم عسره"، ونقلت أيضاً عن البدائع: "فإن طلب صاحب الدين الحبس من القاضي، واشتبه على القاضي حاله في يساره وإعساره، ولم يقم عنده حجة على أحدهما، وطلب الغرماء حبسه، فإنه يُحبس ليتعرف عن حاله أنه فقير أم غني"، وذكرت أيضاً نصاً لابن فرحون المالكي نقلاً عن القرافي: "حُبس من أشكل أمره في العسر واليسر اختباراً لحاله، فإذا ظهر حُكم عليه بموجبه عسراً ويسراً"، وقال ابن قدامة الفقيه الحنبلي المعروف: "من وجب عليه حق فذكرَ أنه معسر به، حُبس إلى أن يأتي ببينة بإعساره".
وعلى ضوء هذه النصوص، يُفهم مستَمَّد الباحثة إذ تقول: "ويستخلص مما سبق اتفاق الفقهاء على حبس مدعي الفلَس الذي يدفع بالإعسار ويشتبه في حاله، فيكون الحبس لمظنة أنه على الملاء، فيؤدي حبسه إلى قيامه بأداء الدين، أو يثبت إعساره بأن يأتي بالبينة على إعساره..". كذلك أشار الدكتور عبدالله حسن حميد الحديفي في كتابه "أحكام المعسر في الفقه الإسلامي" إلى أن عبء الإثبات يقع على المدين زاعم الإعسار، حيث قال: "إذا ترتب على شخص ما حق من الحقوق المالية وادعى الإعسار، أي عدم القدرة على القيام بذلك الحق، فلا بد للقاضي من أن يستعين بإحدى وسائل الإثبات المقررة شرعاً للتحقق من ذلك الادعاء" (ص23)، كما قال: "إن الاعتماد في إثبات الإعسار بالإقرار ليس على إقرار المدعى عليه -أي من عليه الحق- لأنه لا بد أن يثبت دعواه إذا ادعى الإعسار كما سنلاحظ في بقية وسائل الإثبات، وإنما الاعتماد هنا على إقرار صاحب الحق، فإذا صدَّق صاحب الحق وأقر واعترف بأن من عليه الحق معسر وأنه يعلم بذلك، فإنه حينئذ يحكم على المدعى عليه بالإعسار" (ص25).
بل إن الدكتور عبدالله الحديفي أورد عن الحنفية والمالكية أنهم يرون أنه لا تسمع بينة الإعسار إلا بعد الحبس، حيث قال: "عندما نستعرض نصوص الفقهاء في سماع بينة الإعسار أي الشهادة على الإعسار فإنهم قد انقسموا إلى اتجاهين: الاتجاه الأول: هو اتجاه الجمهور إذ ذهبوا إلى قبول الشهادة على الإعسار في الحال.. الاتجاه الثاني: عدم قبول بينة إعساره قبل الحبس. أي يحبسه الحاكم شهرين أو ثلاثة ثم يسأل جيرانه وأهل بيته عن يساره وإعساره، فإن قامت البينة على عسرته أخرجه القاضي من السجن، ولا تحتاج الشهادة على الإعسار إلى لفظ أشهد، وكذلك لا يُشترط العدد، بل إذا أخبر بذلك ثقة عُمل بقوله، والاثنان أحوط. وللقاضي أن يعمل برأيه، ولكن أن يسأل أحوط. وسيأتي الكلام عن هذه المسألة في مبحث حبس المدين، وهذا هو المُفتى به عند الحنفية، والقول بحبس مدعي الإفلاس حتى يثبت إفلاسه بشهادة عدلين فأكثر هو قول مالك أيضاً، إلا إذا كفله شخص كفالة بدن أو كفالة مال" (ص27).
وكذلك قال الدكتور بشأن مجهول الحال: "هو من لم تقم بينة على ملاءته ولا عسره، فهل يُحبس حتى يتبين حاله؟ اتفق الفقهاء باستثناء الظاهرية -لأنهم لا يرون مشروعية الحبس أصلاً- على حبس مجهول الحال حتى يتبين حاله. قال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من علماء الأمصار وقضاتهم يرون الحبس في الدين، منهم مالك والشافعي وأبو عبيد والنعمان وسوار وعبيد الله بن الحسن. قال ابن رشد: وكلهم (الفقهاء) مجمعون على أن المدين إذا ادعى الفَلَسَ لم يُعلم صدقه، أنه يُحبس حتى يتبين صدقه أو يقر له بذلك صاحب الدين. ثم قال: وإنما صار الكل إلى القول بالحبس بالديون وإن لم يأتِ أثر صحيح لأن ذلك أمر ضروري في استيفاء الناس حقوقهم بعضهم من بعض. قال الباجي: ومن ادعى الإعسار وكان مجهول الفلَس، فعن مالكٍ أنه يُحبس حتى يستبين أمره لعله غيَّبَ ماله. وقال في الروض النضير: ومن يثبت عليه حق للغير فادعى أنه مفلس وادعى الغريم أنه موسر فإن الحاكم يحبسه إلى أن يتبين أمره" (ص178). علماً بأن الفلَس في اصطلاح الفقهاء هنا -تحديداً المالكية- هو والإعسار مترادفان. (راجع: الدكتور عبدالله حسن حميد الحديفي في كتابه "أحكام المعسر في الفقه الإسلامي"، مكتبة نزار مصطفى الباز، الطبعة الثانية 2005م).
كما يمكننا أن نستأنس ببعض الأبحاث الحديثة التي تخصصت في استقراء المراجع بحثاً في هذه المسألة تحديداً بغية تحرير الإشكال فيها. ومن هنا، وقفنا على بحث بعنوان "أحكام الإعسار في الفقه الإسلامي مقارناً بأنظمة المملكة العربية السعودية"، لمؤلفه: أحمد بن عبدالله الجعفري، وقد خلص مؤلفه أنه إذا كان المدين مظنون الملاءة، وهو "الذي لم تعلم ملاءته ولكن يظن به الملاء كمن عرف له أصل مال قبل دعوى الإعسار والغالب بقاءه.. حكمه: القول قول الدائن، وله حبسه إلى أن يبرأ من الدين بأداء أو إبراء أو حوالة أو يقيم البينة على تلف المال أو الإعسار أو يأذن الدائن في إخراجه، وهذا محل اتفاق في الجملة، لكن عند المالكية إذا طلب المدين مهلة أيام معدودة قدروها من اثنين إلى خمسة لإثبات عسره أمهله القاضي ولم يحبسه بشرط أن يحضر من يضمنه".
وأما إذا كان المدين مجهول الحال، لا يعرف إذا كان موسراً أو معسراً، ونرى أن هذا هو وضع أكثرية المدينين في معظم الحالات الواقعية، فعلى ما خلص إليه السيد/أحمد بن عبدالله الجعفري، يختلف الأمر بحسب الحق المطلوب من هذا المدين المجهول الحال، فإذا كان الحق المطلوب منه هو بدل مال ناتج عن معاوضة كبيع أو قرض، فالقول قول دائن في ملاءة المدين، وله حبس المدين، وهذا هو المعتمد في المذاهب الأربعة. أما إذا كان الحق المطالب به متولداً من غير معاوضةٍ مالية، فإنه إما أن يكون حقاً التزم به المدين باختياره، مثل المهر والكفالة وبدل الخلع، ففي هذه الصورة أيضاً يكون القول قول الدائن وله حبس المدين ما لم يثبت إعساره بالدليل، وهذا قول الحنفية، ووجه لدى الشافعية يقابل الأصح، ومقابل الصحيح لدى الحنابلة. أما القول الثاني فهو أن القول للمدين بيمينه، فإذا حلف أنه معسر أخلي سبيله، وهو الصحيح عند الحنابلة.
وقد رجح المؤلف القول الأول ورأى أنه أقوى من القول الثاني. أما الحالة الأخيرة، فهو أن يكون الحق الذي المطلوب من المدين قد أُلزم به المدين بغير اختياره، مثل قيمة المتلف (التعويض عن الضرر) أو أرش الجناية أو نفقة قريب أو زوجة، ففي هذا يقدم قول المدين بيمينه عن الحنفية والحنابلة والشافعية، وثمة قول آخر في وجه ضعيف لدى الشافعية والحنابلة بعكس ذلك. وقد انتهى الدكتور هشام آل الشيخ إلى النتائج ذاتها في بحثه المحكم المعنون بـ: "إثبات الملاءة في دعوى الإعسار في الفقه والنظام" المنشور في العدد الخامس (محرم 1434هـ) من مجلة القضائية الصادرة عن وزارة العدل السعودية (راجع الصفحات 51 إلى 54 منه).
ولعل التلخيص لكل ما سبق يتأتى بالنظر في الموسوعة الفقهية الكويتية، حيث جاء فيها تحت لفظ "إعسار" مبحث فرعي معنون "إعسار المدين بما وجب عليه من الدين، وهل يُحبس بذلك أم لا"، وقد ذكرت الموسوعة التفصيل المتقدم الذي يفرق بين حالةٍ وأخرى بحسب نوع الدين، ثم نقلت قول المالكية: "يُحْبَسُ الْمَدِينُ الْمَجْهُول إِذَا ادَّعَى الْعُدْمَ لِيَسْتَبِينَ أَمْرُهُ بِإِثْبَاتٍ، وَمَحَل حَبْسِهِ مَا لَمْ يَسْأَل الصَّبْرَ وَالتَّأْخِيرَ إِلَى إِثْبَاتِ عُسْرِهِ، وَإِلاَّ أُخِّرَ مَعَ كَفَالَةِ كَفِيلٍ وَلَوْ بِالنَّفْسِ، وَيُحْبَسُ إِنْ جُهِل حَالُهُ إِلَى أَنْ يَثْبُتَ عُسْرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ الْحَمِيل (الْكَفِيل) غَرِمَ مَا عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَثْبُتَ عُسْرُهُ. وَثُبُوتُ عُسْرِهِ يَكُونُ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ.." ثم نقلت قول الإمام الشافعي: "إِذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِيعَ مَا ظَهَرَ لَهُ وَدُفِعَ وَلَمْ يُحْبَسْ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حُبِسَ وَبِيعَ مَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ عُسْرَهُ قُبِلَتْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ.." وكل هذه النصوص يستفاد منها أن البينة -أي عبء الإثبات- على من يزعم أنه معسر.
وربما يكون التعليل المحق لهذه النظرة هو ما نحا إليه المالكية (ومذهبهم هو المذهب المعتمد في الدولة) ونقلته عنهم الموسوعة الفقهية الكويتية أيضاً، تحت لفظ "دعوى" في عنوان فرعي هو: "التمييز بين المدعي والمدعى عليه"، حيث قال المالكية: "الأصل في الإنسان الفقر، لسبقْه، حيث يولد خاليَ اليد، فيكتسب بعمله، فيصح غنياً. غير أنهم قالوا: إن الناس محمولون على الملاء (أي اليسر) لغلَبَته، فهذا من جملة ما تعارَضَ فيه الأصل والغالب، فقُدِّم هذا الأخير فيه. وفرَّعوا على ذلك أن زاعم الإعسار يعتبر مدعياً، وإن وافقه الأصل الذي هو الفقر، فهو المدعي والمطالَب بالبينة على الإعسار..". فمن كل ما علا، نرى أن الشريعة الإسلامية عموماً وإجمالاً، تولي وجهها تلقاء تكليف المدين بإثبات عسره، لا العكس، إلا في حالات استثنائية خاصة، وحتى في هذه الاستثناءات، نرى وجود خلاف بين الفقهاء بشأنها.
يضاف إلى ما تقدم أن المؤلف عبدالله الجعفري نقل أيضاً اتفاق المذاهب الأربعة على أنه إذا ادعى الدائن أنه لا يعلم حال مدينه أهذا المدين معسر أم موسر، فطلب المدين تحليف الدائن على هذا، فإنه يُجاب المدين، وعلى الدائن في هذه الحالة أن يحلف اليمين على أنه لا يعلم أن المدين معسر، فإذا حلف الدائن على ذلك، حبس المدين حتى يبرأ من الدين أو يثبت إعساره، وإذا نكل الدائن، رُدت اليمين على المدين فإن حلف لم يحبس، وإذا امتنع عن أداء اليمين المردودة، فإنه -أي المدين- يحبس. وقد نقل المؤلف عن التاج والإكليل: "حُبس لثبوت عسره إن جُهل حاله"، وهذا نص يشير أيضاً إلى أن عبء الإثبات يقع على المدين. يمكننا من ثم أن نستخلص أن الشريعة الإسلامية لا ترى أن الأصل في الناس هو الإعسار، بل على العكس، يرى جمهور فقهائها خلاف ذلك، وينصون على حبس المدين إن لم يُعلم حاله من حيث الإعسار من عدمه، ولهم في ذلك تعليلات بديعة تتلقف في مواضعها.
ويمكننا أن نقول في أعقاب بحثنا المختصر الذي أوردنا خلاصته أعلاه أن الشريعة الإسلامية هي أميَل إلى القول بأن الأصل في الناس هو اليسار، وأن زعم المدين أنه معسر لا يُسلَّم له دون بينة، فعليه -أي المدين- إثبات إعساره، لا العكس. والقول العكسي هو قول موجود بين فقهاء الشريعة، بيد أنه قول الأقلية، علاوةً على أنه قولٌ جاء في حالات معينة واستثناءات محددة، أما في المسائل الكبرى العامة، فلا تجد هذا القول سائداً. فإذا ما انتهينا من الإجابة عن السؤال الأول، يكون المناسب هو أن نتطرق للسؤال الثاني الذي يعالجه هذا المقال، فهو سؤال منطقي تحليلي، يتطلب إعمال الفكر وبعث النظر وإمعان التأمل في أبعاد تكليف الدائن بعبء إثبات يسر مدينه، وما سينشأ عن هذا العبء، وما سيترتب عليه.
بدايةً، يمكننا التمهيد بالقول أن تحويل عبء الإثبات يرفع شيئاً من الحماية عن الدائن. فبعد أن كان الدائن محمياً، مراعاةً لسبق خوضه سبيل المنازعة مدةً طويلة وسداده الرسوم القضائية وأتعاب المحاماة وطول آماد انتظاره حتى حصوله على السند التنفيذي، فبعد أن كان هذا الدائن المحق محمياً، أضحى خصمه المدين الممتنع عن السداد هو المحمي، وأصبح الدائن مطالباً -بعد كل ما طولب به من رسم فإثباتٍ فصبرٍ إبان رفع الدعوى الموضوعية- بتقديم مزيد إثبات وخوض نزاع آخر، وبات حاملاً لعبء إثباتٍ إضافي. والأهم فيما نرى هو أن عبء الإثبات الإضافي هذا لا يمكن وصفه بالسهل الميسور، لأن المطلوب من الدائن هو إثبات يسار مدينه أو تهريبه لأمواله، بمعنى أنه في الحالة الأولى، يجب على الدائن تعقب أموال مدينه وتقديم معلومات تتعلق بأرصدته البنكية مثلاً وسياراته وعقاراته وأسهمه وسنداته وما إلى ذلك، ولا يخفى أن هذه المعلومات والبيانات -عملياً- لا يمكن للدائن أن يصل إليها بسهولة، لكونها في عهدة جهاتٍ تخضع للرقابة وتمتنع عن إفادة أي طرف من الغير بأي معلومات تتعلق بما استُئمنت عليه.
فالبنوك لن تزود الدائن بكشوف تاريخية بحسابات مدينه، لأن البنوك ملزمة -قانوناً- باحترام سرية معلومات زبائنها وعدم الإفصاح عن أي معلومات تخصهم إلا للجهات الرسمية. وكذلك الأمر بالنسبة للجهات المختصة الأخرى مثل أسواق الأسهم والبلديات وغيرها من الجهات التي قد تحوز معلومات عن الأصول المالية لأي شخص. أما إذا تطرقنا إلى الحالة الثانية، وهي تهريب أموال المدين من التنفيذ، فالأمر أعقد وأصعب. ذلك أن التهريب أمر خفي عادةً، ويتطلب إثباته الجهد الكثير، كما أنه يحتاج إلى تقصٍّ للأموال وتتبعٍ لها لدى الجهات المختصة بحفظها، وهذا يرد عليه ما يرد على مسألة إثبات يسار المدين الآنف ذكرها. وإنه قد يقال تعقيباً على وجهة نظرنا أن المتوقع من قاضي التنفيذ -بعدما أمسى الدائن مطالباً بالإثبات- هو أن يساعد الدائنَ في مخاطبة الجهات المختصة والاستعلام منها عن أموال المدين وتعاملاته التاريخية.
إلا أننا لا نرى أن هذا التعقيب مفيد، ذلك أن المعلوم من الممارسة العملية أن مسألة المخاطبات والاستعلامات والمراسلات المتبادلة هي مسألة تتسم بالبطء والتعقيد نظراً لما يستغرقه العمل الإداري من وقت وما يتطلبه من جهود وتنسيقات متشابكة، الأمر الذي يجعل ورود مخاطبة بسيطة من جهة ما يستغرق الأشهر أحياناً، فضلاً عن كثرة طروء الأخطاء على هذه المراسلات، مما يبطئ إجراءات التنفيذ التي يتوجب أن تكون سريعةً وحاسمة، لأن العدالة الناجزة في مفهومها الحقيقي هي التنفيذ السريع الفعال بعد الحصول على حكمٍ موضوعي رصين، كما أشرنا إلى ذلك في مقال سابق لنا، وإن البطء في التنفيذ هو أكبر عقبة في طريق العدالة الناجزة، لأنه مهما كان صدور الحكم الموضوعي سريعاً، فإنه لن يتغير الكثير إذا كان صاحب الحق سينتظر سنوات لاقتضاء حقه بالفعل من خلال محكمة التنفيذ.
على أي حال، ربما يحسن بنا في هذا المقام -لغرض التبسيط- أن نقارن بين سهولة إثبات المدين لإعساره، وصعوبة إثبات الدائن يسارَ مدينه، كي تضح الصورة أكثر. ذلك أننا إذا وضعنا عبء إثبات الإعسار على المدين، فإنه يمكنه تقديم كشف حساباته البنكية بسهولة، بالإضافة إلى قائمة برخصه التجارية، وقائمة بعقاراته، وقائمة بأسهمه وسنداته، فضلاً عن شهادة تثبت عدم عمله، فكل هذه المستندات يمكن جمعها بسهولة من المدين أو وكيله المفوض. ومتى قدم المدين هذه المستندات للمحكمة، فإنه سيثبت لقاضي التنفيذ أنه فعلاً معسر، وأنه ليست لديه أموال يمتنع عن أدائها، بما يكون معه الأمر بحبسه غيرَ مبرر، مما يستوجب الأمر بالإفراج عنه. أما إذا قلبنا الموازين وطلبنا من الدائن الإثبات، فأنى للدائن أن يأتي بالبيانات عن مدينه؟
إن تكليف الدائن بالتحري عن مدينه وتقصي أمواله وتتبع أصوله المالية ربما يؤدي ببعض الدائنين إلى التجسس أو إلى غير ذلك من أعمال تنطوي على جرائم أو تطفل أو اعتداء على الخصوصية، بما قد يقود إلى نشأة مكاتب التحري الخاص Private Investigation، وهذه ظاهرة لا تناسب البيئة الإماراتية ولا طبيعة المجتمع وتركيبته حسب وجهة رأينا، ولعل مفاسدها تكون أكثر من مصالحها. فإذا كان الهدف المنشود هو تقليل حالات الإكراه البدني إلى الحد الأدنى، وإفراغ السجون ممن لا يملكون، فإننا نرى أن معالجة هذه المسألة يمكن أن تتم تدريجياً من خلال دراسة بعض الحلول المقترحة لتسهيل إثبات المدين لإعساره، ووضع معايير ثابتة للمستندات المطلوبة من المدين لكي يثبت إعساره بما لا يجوز معه حبسه، أما قلب عبء الإثبات رفعاً له من عاتق المدين لكي تنوء به كواهل الدائنين، فهذا مسلك ربما يؤدي إلى التيسير على من لا يستحق من المدينين المماطلين الممتنعين تعنتاً وتعسفاً، ولا شك أن هذا ليس ما يتغياه المقنن ولا المقرر.
إذن، بعد أن عرضنا ما تقدم، يمكننا أن نقول بكل تحفظ واحترام: لعل الأنسب لتحقيق المراد هو وضع بعض الضوابط والآليات التي تسهل من إثبات العسرة، مثل أن يكون المدين هو المكلف بإثبات عسرته من خلال تقديم بعض المستندات المعينة من الجهات المختصة (مثل شهادة الراتب أو عدم العمل بالإضافة إلى عدم تملك رخصة تجارية وكشف بأرصدة كل الحسابات البنكية وكشف عقاري من البلديات)، فإذا قدمها واستوفى شروطها، لم يجز حبسه إلى أن يثبت الدائن أن الحال اختلف عما كان عليه، مع منح الدائن الحق في الاعتراض للتحقيق في شأن أي مستندات يقدمها المدين إذا كانت ظنيةً أو غير واضحة أو ناقصة، فضلاً عن منحه الصلاحيات اللازمة -من خلال قاضي التنفيذ- لمراجعة الجهات المختصة من أجل الاستعلام والتحري عن الحركة الزمنية للأصول المالية لمدينه بغرض إثبات تهريبه لأمواله من التنفيذ.
ختاماً، لا يفوتنا أن نثني على محكمة تمييز دبي التي عودت القانونيين على السبق والريادة وضع القرارات والمبادئ المبدعة المتسمة بالعدالة والإنصاف، والتي تنم عن ملكات قانونية فذة وخبرات قضائية راسية يصعب أن تُضاهى أو تُجارى. ونأمل أن نرى من الهيئة العامة لهذه المحكمة المجيدة مزيداً من القرارات النيرة المسدَّدة.
بقلم:
أحمد محمد بشير | مكتب أحمد محمد بشير للمحاماة والاستشارات القانونية
هذا المنشور لعرض المعلومات العامة فقط، ولا يهدف لتقديم استشارة قانونية شاملة أو أي نوع آخر من الاستشارات.
لا تتحمل شركة ليجال أدفايس ميدل إيست والمساهمون مسؤولية أي خسائر قد تنجم عن الاعتماد على المعلومات المذكورة في هذا المنشور. هذا المنشور يهدف فقط إلى الإشارة إلى المسائل القانونية التي تحتاج إلى طلب الاستشارة بشأنها.
لا بد من الحصول على استشارة قانونية شاملة في الوقت المناسب من خلال محامٍ كفء عند التعامل مع مواقف معينة.