المدونة القانونية

جميع المدن, الإمارات العربية المتحدة

تقاضي الرسوم القضائية مقابل تقديم المذكرات – مناقشة قانونية

دردشة
توظيف
اجتماع
تقاضي الرسوم القضائية مقابل تقديم المذكرات – مناقشة قانونية

بسم الله الرحمن الرحيم

إنه لمنَ المعلومِ قانوناً أنَّ التقاضي يحكمه أصلٌ ومبدأٌ عامٌ مقرر هو المجانية، بحيث يكون مرفق القضاء العام متاحاً لجميع الناس دون مقابلٍ ماديٍّ عن خدمة فض النزاعات. فمع أنها من أجلّ الخدمات، إلا أنها من الخدمات الأساسية الواجبة ضرورةً، ومن ثمَّ كان غيرَ جائزٍ أن يُحرم منها أحد، فهي من مستلزمات استقرار المجتمعات، يترتب على عدمها تهديد الأمن العام، وزعزعة السكينة، والمساس بالطمأنينة، فضلاً عن التأثير على الاقتصاد تأثيراً سلبياً على أبعادٍ شتى.

وإنَّ مبدأ مجانية التقاضي نما وتغير، وتطور وتحور، حتى أضحى على صورته التي نعرفها اليوم، صورةٍ تحيطها الكثير من التحفظات والانتقادات، صورةٍ ربما تكون ناجمةً عن ضرورة عملية، أو عن عوامل أخرى قد يكون استقصاؤها وبحثها أمراً عسيراً يخرج بنا عن موضوع هذا المقال ويبعدنا عن غرضه البيّن من عنوانه.

فموضوع هذا المقال هو مناقشة تطبيق عملي جديد وقفنا عليه لدى بعض السلطات القضائية، يتمثل في استيفاء رسمٍ قضائي مقابل تقديم المتقاضي لدفاعه الكتابي، فمتى كان المتقاضي يرغب في تقديم مذكرة، وجبَ عليه أداء رسم لرفعها على النظام الإلكتروني، وإلا، لم يكن له سبيل إلى رفعها، فلا يقبلها النظام الإلكتروني، ولا تصل إلى قاضي الدعوى. وقد وقفنا على هذا التطبيق المستحدث في الدعاوى الجزائية، والدعاوى المدنية كذلك، في أكثر من جهة قضائية في الآونة الأخيرة، فرأينا أن نقوم بهذه الموازنة النظرية المجردة، بغرض الانتهاء إلى تحليل هذه الفكرة، وتقييم هذا التطبيق، أهو مقبول قانوناً، سائغٌ متى عُرض على موازين العقل والمنطق، والعدالة والإنصاف، والقسط والمساواة.

شروعاً في المناقشة نقول: إنَّ فكرة تقاضي رسم قضائي مقابل تلقي المذكرات وقبولها تجد أساسها في المبررات التي قامت عليها التغييرات المعاصرة التي طرأت على مبدأ مجانية التقاضي، حيث ذهبت بعض الاجتهادات إلى تبرير تقاضي الرسوم مقابل خدمات التقاضي المتنوعة بثلاث مبررات أساسية، نختصرها بالآتي:

المبرر الأول: أنَّ خدمات التقاضي مرهقةً مكلفة، وأن عملية فض النزاع عملية طويلة معقدة، تتطلب جهداً وموارد ووقتاً، وأنَّ السلطات القضائية الحديثة أتاحت خدمات عدلية راقية فائقة السرعة شديدة السلاسة، تتمثل في أنظمة إلكترونية تسهل عملية التقاضي، والرسوم هي مقابل هذه التسهيلات والخدمات، وليست على سبيل دفع "أجور" القضاة ومعاونيهم، بل هي من قبيلِ المبالغ المدفوعة مقابل الخدمات المتطورة التي تحقق العدالة الناجزة.

المبرر الثاني: أن الرسوم القضائية تعد ضماناً متيناً لجدية الدعوى، وتسد الذريعة إلى الدعوى الفاسدة، إذ إن مجانية التقاضي المطلقة تجعل من رفع الدعاوى أمراً سهلاً مستمرأً لا يستصعبه ذو حيلة، ولا يستثقله ذو النفس الرذيلة، ومن ثم يستسيغه أولو الدعاوى الكيدية، والقضايا الصورية، بما يتعب طرفاً من أطراف التقاضي بلا شك، ويرهق الخزينة العامة بتكاليف متابعة عددٍ مهولٍ من الدعاوى التي لا طائل وراءها ولا حق فيها، علاوةً على أنَّ ذا الدعوى الصادقة، يتضررُ بشكلٍ غير مباشر من حيث إنه يعاني من بطء إجراءات الفصل في دعواه، بسبب تراكم الأعباء وكثرة الملفات، التي تكون نسبة معتبرة منها نسبة وهمية غير جديرة بالحماية القضائية أساساً.

وهذا المبرر يعتلي قائمة المبررات التي تبناها اجتهاد تقييد مبدأ مجانية التقاضي، ويرافقه عادةً مبررٌ يتلوه هو المبرر الثالث.

المبرر الثالث: أن فرض الرسوم القضائية فيه الحث على إبرام عقود الصلح والتسوية والوساطة وإنهاء النزاعات ودياً. فمن ناحية مبدئية، متى علمَ المتقاضي أنه مكلف بسداد رسم للوصول إلى حقه تقاضياً، كان أحرص في سعيه إلى التصالح والتسوية، حتى إذا انتهى إلى اليأس التام من الوصول إلى حقه تسويةً، كان لجوؤه للقضاء ملاذاً أخيراً. ومن ناحيةٍ أخرى، تُوضع قوانين الرسوم القضائية عادةً بهيكلةٍ تضمن للمتصالح أمام القضاء استرداد رسمه كلاً أو جزءاً، وهذا يشكل حافزاً إضافياً للتصالح ولو في المراحل الأخيرة: أمام القضاء.

هذا وثمة مبررات أخرى لفرض الرسوم القضائية عموماً، بيد أن أرجحها وأقواها هي المتقدمة. وليس خافياً أن هذه المبررات لها حظٌ من النظر، وأنها تظهر قويةً في الوهلة الأولى. غيرَ أننا نناقشها كما يأتي، مقتصرين في مناقشة هذه الأفكار بالقدر المتعلق بفكرة الرسم المفروض على تقديم الدفاع الكتابي (المذكرات)، وضمن الحدود التي تقف فيها هذه الأسس مؤيدةً لفكرة تطبيق رسم قضائي نظير "خدمة رفع مذكرة"، فلن نتوسع للمناقشة على إطلاقها، فذاك موضوعٌ جليل يتطلب بحثاً مستقلاً مطوّلاً.

على ما علا نقول: إن التبرير المختزل في كون الرسم يُؤخذ لقاء خدمات تتمثل في إتاحة نظام إلكتروني يسهل رفع المذكرات للقاضي، تبرير مردود لعدة أوجه، أهمها أنه ليس ثمة منصة يمكن للمتقاضي تقديم المذكرة من خلالها سوى النظام الإلكتروني، فلو أتيح للمتقاضي الحضور الشخصي وتقديم المذكرة مطبوعةً للقاضي والخصم، وقيل له: إنك مخير بين ذلك، وبين رفعها على النظام مقابل رسم، لكان هذا أقرب للإنصاف، إلا أنَّ الحالات التي وقفنا عليها هي حالات لا يجد فيها المتقاضي أمامه خياراً، فلا يمكنه رفع المذكرة إلا عبر النظام الإلكتروني، ولا تُقبل إلا بذاك، وهي في نفس الوقت لا يمكن رفعها إلا عقب أداء الرسم أولاً.

أما إذا نظرنا إلى القول بأن فرض الرسم القضائي يحول دون الكيدية والصورية، فإننا نرد على هذا بأن مجرد تقديم المذكرات -بغض النظر عن مضامينها- أمرٌ لا يتصور أن ينطوي على كيدية أو صورية أو سوء نية. ثم إن الإكثار من التعلل بالخوف من الكيدية والصورية مسلك غير قويم، إذ ليس ثمة فعل في الحياة إلا وهو يمكن فعله بسوء نية ولغرضٍ غير صالح، حتى الفعل الذي يظهر بمظهر الخير المحض، يحتمل أن يكون كيداً واحتيالاً، فلا يصح من ثم سد كل ذريعة، وغلق كل باب.

كذلك لا ينهض القول بأن الرسم يهدف إلى الحد من إكثار المذكرات من دون حاجة، وشغل القاضي بمكررٍ من الكلام لا يغني، لأن الخصم له الحق في إبداء دفاعه على النحو الذي يراه مناسباً، والقاضي مهمته الأساسية هي أن يميز بين دفاع الخصوم يأخذ ناهضه ويطرح ساقطه، ولو طُلب من كل متقاضٍ ألا ينطق إلا بحقٍ لما احتيج إلى القضاء أصلاً. ولا يُدرى سقط الكلام ومهدور الحجج من وجيهها وقويمها إلا بعد أن يتاح للمتقاضي الإدلاء بكل ما عنده. فإذا أدلى بشيءٍ بعد منحه الفرصة والأجل، فحينئذٍ يمكن أن يكون ثمة مدخل لكلام من يقول بحظر تقديم المذكرات وتنظيمها بضرورة سبق الإذن بها وسداد رسمٍ حال تقديمها في أوضاع استثنائية (كطلب فتح باب المرافعة مثلاً)، مع أننا أيضاً لنا على ذلك تعقيبات، غير أن هذا ليس موضع الاستطراد بإيرادها.

وتقديم الدفاع حق جوهري أصلي ذو أهمية كبرى، سواء كانت الدعاوى مدنية أم جزائية، لا فرق في ذلك إلا أن الدفاع في الجزائي أجل خطراً، غير أن ما وقفنا عليه من تجربة استدعت كتابتنا لهذا المقال هو فرض رسم على تقديم المذكرة الجنائية تحديداً، فهذا لا يسوغ البتة، ولا يمكن قبوله، سواء كان الرسم رمزياً أم غير رمزي، فلا تسوغ الحيلولة بين المتهم وتقديم مذكرة دفاعه بأي شكل من الأشكال، بل يتعين تسهيل تقديم الدفاع عليه قدر الإمكان، وتكثير الطرق التي يمكن له من خلالها أن يقدم دفاعه الشفهي والكتابي، وتطويرها، أما أن يوضع بين المتهم ودفاعه معوق ولو بسيط، فهذا ما تأباه قواعد العدالة بديهةً.

فالأصل في الإنسان البراءة -جنائياً- وبراءة الذمة -مدنياً- ومن هذا المنطلق، لا على المدعى عليه أو المتهم تحمل عبء مالي إضافي بسبب دعوى غير صادقة، أو غير صائبة، أو كيدية، أقيمت ضده. وهذا لا يعني أن المدعي جديرٌ بتحمل هذه الرسوم، إذ لا يصدق هذا في حق المدعي، لأنه ما دام قد ولج باب القضاء، وأتيح له قيد دعواه -وهو لا يصل إلى هذه المرحلة إلا بعد أداء مبلغ ذي بال من الرسوم- فإنه يكون قد أضحى في رحاب التقاضي، يتاح له التدليل على دعواه والمجادلة في حقه والمنافحة عنه بما يشاء من حجج وبراهين، له في ذلك حرية واسعة، لا يقبل التحكم فيها أو تقييدها بمتطلبات مزيدة تجعل التقاضي عملية أكثر تعقيداً وإرهاقاً.

وأما فكرة أن فرض الرسم القضائي أدعى للصلح وأحثُّ على التسوية، فهذا قول لا مدَّخل له إذا كنا بصدد الكلام عن رسمٍ يتقاضى لقاء رفع شخصٍ ما مذكرةً بدفاعه، إلا إذا قلنا أنه يضاف إلى أعباء التقاضي المالية إجمالاً، وهذا من قبيل التعسف في الجدال لا يستأهل جهد المناقشة.

ومما يرد على فكرة تقاضي الرسوم عن رفع المذكرات على المنصات الإلكترونية، هو أن المتقاضي -غالباً المدعي- سبق له أداء رسوم الدعوى مقدماً من أجل قيد دعواه، وبذلك الرسم فُتح له باب القضاء، وولج ساحته، ولا نعتقد من ثم أن طلب المزيد من الرسوم الفرعية منه لاحقاً مقابل خدمات تفصيلية هي من صلب التداعي، هو أمرٌ قريبٌ من العدالة والإنصاف، فإذا لم يكن رسم الدعوى من أجل تمكينه من قول كلمته فيها، فعلامَ أدّاه إذاً؟ فإن قيل: أداه ليقدم لائحة الدعوى وحدها، قلنا: إنَّ هذا القول فيه بعض تعسف، لأنه ليس سائغاً أنه له تقديم لائحة الدعوى، فإذا أجاب خصمه، لم يكن له التعقيب عليه، وإذا نُدب خبيرٌ في دعواه، لم يكن له التعقيب على تقريره، إلا برسم جديد، إذ هذا ينطوي على تجزئة للدعوى وتقطيع لأوصالها لا نراه مسلكاً حميداً.

أخيراً، يليق بنا أن ننوه إلى أن بعض القانونيين قد يقول: إن هذه الرسوم رمزية بسيطة، لا تشكل عبئاً، ولا ترهق كاهلاً. وهذا القول لا يُسلَّم به أساساً، لأن التعبير بالرمزي يحتاج لتعريف الرمزي في حدود اقتصادية معينة، ونحن فيما وقفنا عليه لم نجد الرسم رمزياً. كما أن المعلوم اقتصاداً واجتماعاً هو أن القيمة نسبية، فما يراه بعض الناس رمزياً، يراه غيرهم مبلغاً معتبراً ذا شأن، لأن الدخول تتفاوت، والثروات لا تتساوى، والفقر والعوز بلاءٌ يصيب الكثير من الناس. كما أن القول بكون الرسم رمزياً قد يجر القائل للتساؤل: أليس بالأحرى إذاً التنازل عنه، وعدم المطالبة به ابتداءً، لأنه ليس بالمبلغ المعتبر الذي يستأهل المطالبة به في مقابل أمر أساسي وحق على هذا القدر من الخطورة؟

إننا نجد من خلال مناقشتنا المتقدمة أنه ليس ثمة مبرر قانوني مقبول لتقاضي الرسوم نظير تمكين المتقاضين من ممارسة حقهم الأصيل في الدفاع، وإننا نرى أن القضاء أجل وأعظم وأعلى من أن يقرر لهذه الأمور التفصيلية التي هي جوهر التقاضي ومادة التخاصم، رسوماً مالية، قلت أو كثرت، وهو الأجدر أن يربأ عن ذلك. ومن هذا المنطلق، ندعو المقننين وصانعي القرار إلى مراعاة حساسية هذا المرفق، وطبيعته الخاصة، وسمو مهمته، عند النظر في الرسوم والتكاليف القضائية المقابلة للـ"خدمات" العادية اليومية، التي هي من تنطوي تحت أساسيات وجوهريات التقاضي، ونحثهم على إعادة النظر في ما تم فرضه من رسوم لقاء تقديم المذكرات ورفعها على النظم الإلكترونية، للحفاظ على حقوق المتقاضين، وصون العدالة، وضمان حسن سيرها.

 

بقلم:

أحمد محمد بشير | مكتب أحمد محمد بشير للمحاماة والاستشارات القانونية

دردشة
توظيف
اجتماع
هل هذا المحتوى مفيد؟
البحث بكلمة
هل أنت محامٍ؟
ساعد العملاء على الوصول إليك. انضم إلينا واحصل على عملاء جدد كل يوم.
تسجيل
هل تبحث عن شيء آخر؟
اطلب استشارة من محامٍ
الخدمة مجانية وهويتك مخفاة
لا حاجة للتسجيل
اسأل محاميًا