Legal blog
نظرة في قرارات الهيئة العامة لمحكمة نقض أبوظبي في الطلبين 3 و4 لسنة 2023

بسم الله الرحمن الرحيم
تضطلع محكمة نقض أبوظبي بدورها الرقابي كمحكمةٍ عليا تسبغ الرقابة القانونية في إمارة أبوظبي، وتمارس هذه المهمة من خلال إرساء المبادئ وتوحيدها ووضع الخطة القانونية كي تستقيم عليها المحاكم الأدنى درجةً في الإمارة دون انحراف ولا اعوجاج، بما يحقق الاستقرار القانوني المطلوب، والثبات القضائي المنشود. ومن هذا المنطلق، أصدرت الهيئة العامة لمحكمة نقض أبوظبي في 30/10/2023 جملةً من القرارات الهامة، متمثلةً في القرار رقم 3 لسنة 2023 المتعلق بالتفرقة بين عقد الإيجار (أو الإجارة) وعقد الاستثمار، والقرار رقم 4 لسنة 2023 المتعلق بالشيكات التي يجوز التنفيذ فيها مباشرةً، والقرار رقم 5 لسنة 2023 المتعلق بالرسوم التي تتعدد بتعدد أسباب الطلبات في دعاوى شركات التأمين قِبل بعضها.
يأتي هذا المقال شارحاً لهذه القرارات التي صدرت مؤخراً، مشيرا إلى الأهمية البالغة للنتائج القانونية المترتبة على هذه القرارات، موجزاً ما خلصت إليه القرارات آنفة الذكر بما يعين الباحث القانوني والقارئ المهتم على معرفة آخر المستجدات القانونية في الإمارة، علماً بأننا سنقصر مقالنا هذا على القرارين 3 و4 لسنة 2023 نظراً لكون القرار 5 لسنة 2023 متعلقاً بحالات شبه خاصة ومحدودة على ما يتبين من منطوقه، خلافاً للقرارين 3 و4 اللذين يمسان طائفةً كبيرةً من المتقاضين والقانونيين.
القرار رقم 3 لسنة 2023 الصادر عن الهيئة العامة لمحكمة نقض أبوظبي: أقرت محكمة النقض في هذا القرار مبدأً قضائياً مفاده أن "عقد الإيجار المحكوم بالقانون رقم 20 لسنة 2006 بشأن إيجار الأماكن وتنظيم العلاقة الإيجارية بين المؤجرين والمستأجرين في إمارة أبوظبي والأحكام القانونية ذات الصلة يقتضي أن يكون انتفاع المستأجر بالعين محل عقد الإيجار بنفسه مقصوداً بذاته، وهذا العقد يغاير -في طبيعته والقواعد الشكلية والموضوعية التي تحكمه- عقد الاستثمار المبرم بين المالك والمستثمر والذي يقوم فيه الأخير على سبيل الاحتراف باستغلال العقارات بالحالة التي عليها بإعادة تأجير وحداتها للغير بهدف تحقيق ربح مادي، أو بإنشاء مبانٍ عليها على حسابه الخاص، أو بتعديل أو إضافة منشآت للمباني القائمة واستثمارها من خلال إعادة تأجير وحداتها، وذلك كله بهدف تحقيق الربح، وهو ما يعد عملاً تجارياً وفقاً للمادة السادسة من قانون المعاملات التجارية سالفة البيان، وبالتالي ينعقد الاختصاص بنظر الدعاوى المتعلقة به للمحكمة التجارية عملاً بنص المادة الرابعة من قرار سمو رئيس دائرة القضاء رقم 28 لسنة 2019 بإنشاء محكمة أبوظبي التجارية".
وبدراسة هذا المبدأ وتحليله، يتضح لنا أن المحكمة وضعت معياراً ثابتاً وبيِّناً للتفرقة بين عقد الإجارة (الإيجار) وعقد الاستثمار، وهذا المعيار يتمثل في الغرض من العقد بالنسبة للطرف الذي ليس مالكاً للعقار أو العين المؤجرة. بمعنى أنه يتوجب للتفرقة بين العقدين أن يُجاب عن السؤال: ما هو غرض أو هدف الطرف الذي لا يملك العقار أو الشيء المستأجَر في هذا العقد؟ فإذا كان الغرض هو أن ينتفع بنفسه بهذا العقار أو يستغل العين المؤجرة شخصياً، فإننا نكون بصدد عقد إجارة. أما إذا كان الغرض هو أن يعيد الشخصُ تأجير العقار للغير من الباطن، أو أن يبني على أرضٍ ما ثم يؤجر، أو أن يعدل أو يضيف على العقار ثم يؤجر للغير، بغية تحقيق الربح في كل الحالات السابقة، فإن هذا العقد يكوِّن عقدَ استثمار.
فإذا تقرر ذلك، فما هو الأثر المترتب على هذه التفرقة؟ وما هي ثمرة التمييز بين العقدين؟
إن الأثر المترتب على هذه التفرقة جوهري للغاية. فعقد "الإيجار" في إمارة أبوظبي تختص بنظره لجان فض المنازعات الإيجارية، ومتى كان هذا العقد غيرَ موثقٍ لدى البلدية المختصة، فإن لجان فض المنازعات الإيجارية ستقضي بعدم قبول الدعوى الإيجارية "لعدم تقديم عقد إيجار موثق". أما عقود الاستثمار، فإن الاختصاص بنظرها حسب المبدأ أعلاه ينعقد للمحكمة التجارية، لا للجان الإيجارية. كما أن تصديق عقود الاستثمار أو توثيقها لدى البلدية ليس شرطاً لصحتها، فلا يبطل عقد الاستثمار إذا كان غير مصدق أو موثق لدى البلدية.
ومن هنا يتبين أن التفرقة بين العقدين هامة جداً بالنسبة لمآل كل عقد من حيث صحته ومقبوليته والجهة المختصة بنظر النزاعات المتعلقة به.
القرار رقم 4 لسنة 2023 الصادر عن الهيئة العامة لمحكمة نقض أبوظبي: جاء هذا القرار ناطقاً بالآتي: "قررت الهيئة العامة لمحكمة النقض الاعتداد بالمبدأ القضائي بقصر وضع الصيغة التنفيذية على حالتي الشيك بدون رصيد أو عدم كفاية الرصيد فقط". وقد أتى القرار بهذا المبدأ بعدما وقع الاختلاف في التطبيق القضائي بشأن الشيك المرتجع لغلق الحساب وبشأن الشيك المرتجع لمضي مدة تقديمه (6 أشهر) وغير ذلك من أسباب ارتجاع الشيك، فقد ذهبت بعض التطبيقات القضائية إلى اعتبار الشيك المرتجع لغلق الحساب سنداً تنفيذياً يجوز ختمه بالصيغة التنفيذية على ضوء المادة 667 من قانون المعاملات التجارية، بينما ذهبت طائفة أخرى من الأقضية إلى خلاف ذلك، إذ لم تعتبر الشيك المرتجع لغلق الحساب أو لغيره سنداً تنفيذياً لزوماً لحروف نص المادة 667 من قانون المعاملات التجارية.
عليه، تدخلت محكمة النقض من أجل إزالة الإشكال وتوحيد العمل القضائي على نهج غير مشتت، فكان أن أصدرت قرارها رقم 4 لسنة 2023 المنقول نصه أعلاه. وبمطالعة أسباب القرار، نرى أنه أرسى مبدأ صحيحاً ووضع قاعدةً صائبةً تتماشى مع نصوص القانون، حيث تقول المادة 667 من قانون المعاملات التجارية الاتحادي: ((1- يعد الشيك المثبت عليه من قبل المسحوب عليه بعدم وجود رصيد له أو عدم كفايته سنداً تنفيذياً، ولحامله طلب تنفيذه، كلياً أو جزئياً، بالطرق الجبرية)). فلقد أخذت محكمة أبوظبي بهذا النص، وقرأته على ضوء القاعدة المستقرة التي حوتها المادة 30 من قانون المعاملات المدنية الاتحادي: ((الاستثناء لا يقاس عليه ولا يتوسع في تفسيره))، وهذه قاعدة مستمدة من الشريعة الإسلامية الغراء، ولها ألفاظ شتى، وبعض القواعد القريبة منها، مثل: ((ما ثبت على خلاف القياس فغيره عليه لا يقاس)).
وعلى هدي هذه النصوص والقواعد، وقفت محكمة نقض أبوظبي عند حدود عبارة المادة 667 ولم تتجاوز في تفسيرها، لذلك قررت أنه لا يجوز التنفيذ بالشيك إلا إذا كان راجعاً لعدم كفاية الرصيد، أو عدم توفر أي رصيد. جدير بالذكر أن عدم كفاية الرصيد هي الحالة التي يتواجد فيها مبلغ مالي ما في الحساب، لكنه لا يفي بقيمة الشيك كاملةً، إلا أنه يسمح بالوفاء الجزئي بقيمة الشيك. أما حالة عدم توفر الرصيد، أو الشيك بدون رصيد، فهي الحالة التي يكون فيها الحساب خالياً من أي مبلغ يمكن أداؤه، بمعنى أن الوفاء الجزئي غير ممكن لأنه ليس ثمة أي مبلغ يمكن أداؤه للمستفيد.
بالنتيجة، باتت الشيكات المرتجعة لغلق الحساب أو لعدم كفاية الرصيد في إمارة أبوظبي غيرَ صالحةً للتنفيذ الفوري بمقتضاها، فلا يمكن ختمها بختم الصيغة التنفيذية فوراً ثم فتح ملف تنفيذي بموجبها. فما الحل إذاً بالنسبة لأصحاب الشيكات المرتجعة في هذه الحالات؟
أولاً: يتعين التنبيه إلى أن ارتجاع الشيك بسبب غلق الحساب ما زال فعلاً يجرمه القانون ويسائل مرتكبه مساءلة جنائية، فإذا وجد المستفيد من شيكٍ ما أن الشيك قد ارتجع بسبب غلق الحساب، فله تقديم بلاغ جنائي في حق ساحب الشيك. فلقد نصت المادة 675 من قانون المعاملات التجارية الجديد (المادة (641 مكرر 2) من قانون المعاملات التجارية السابق) على أنه: ((يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن (6) ستة أشهر ولا تزيد على سنتين، وبالغرامة التي لا تقل عن (10%) من قيمة الشيك وبحد أدنى (5،000) خمسة آلاف درهم، ولا تزيد على ضعف قيمة الشيك، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من يرتكب أحد الأفعال الآتية:
ب- أقفل الحساب أو سحب كل الرصيد الموجود فيه أو علم بقفله قبل إصدار الشيك أو قبل تقديمه للمسحوب عليه للسحب، أو تسبب عمداً في تجميده..))
ثانياً: بغض النظر عما إذا كان المستفيد قد أبلغ عن واقعة ارتجاع الشيك لغلق الحساب من عدمه، إذا كان الشيك قد ارتجع لأي سببٍ عدا عدم كفاية الرصيد أو عدم توفره، يمكن للمستفيد في هذه الحالة أن يسلك سبيل أمر الأداء، من خلال توجيه إنذارٍ عدلي وتكليفٍ بالوفاء لساحب الشيك يكلفه بأداء بقيمة الشيك خلال خمسة أيام من تاريخ التكليف، فإذا لم يسدد المنذَر قيمة الشيك خلال هذه الأيام، فللمستفيد أن يطلب من المحكمة إصدار أمرٍ بأداء قيمة الشيك، بحيث يقدم المستفيد عريضةً شارحة ويرفق معها الشيك المرتجع وإفادة الارتجاع والإنذار/التكليف بالوفاء ويسدد الرسم المقرر (5% من قيمة الشيك)، لكي يصدر أمر لصالح المستفيد في مدة قصيرة للغاية وفي غيبة الساحب. ومما يحسن ذكره في هذا السياق هو أن القرار رقم 4 لسنة 2023 أشار إلى سلوك أمر الأداء عندما قال في أسبابه: "الشيك المرتد لعدم الصرف -في الأصل- لا يتحول إلى سند تنفيذي ويصبح قابلاً للتنفيذ الجبري إلا بعد سلوك الإجراءات القضائية اللازمة لاستصدار أمر بقيمته".
بقلم:
أحمد محمد بشير | مكتب أحمد محمد بشير للمحاماة والاستشارات القانونية
This publication is for general information purposes only. It does not purport to provide comprehensive full legal or other advice.
Legal Advice Middle East and the contributors accept no responsibility for losses that may arise from reliance upon information contained in this publication. This publication is intended to give an indication of legal issues upon which you may need advice.
Full legal advice should be taken in due course from a qualified professional when dealing with specific situations.