Legal blog

All cities, UAE

العدالة النافذة بدلاً من العدالة الناجزة

Chat
Hire
Meet
العدالة النافذة بدلاً من العدالة الناجزة

في هذا المقال، نعاود زيارة الموضوع، ولكن من زاوية أخرى، وهي مناقشة السبل التي يمكن من خلالها تعجيل التنفيذ وتطويره وتسريعه، وذلك على ضوء الحدث الكبير الذي شهده قضاء التنفيذ الإماراتي، وهو الحد شبه التام من أمر الضبط والإحضار (حبس المدين)، وهو حدثٌ بدأ بقرار صدر عن الهيئة العامة لمحكمة تمييز دبي ينطق بعدم جواز إصدار الأمر بالضبط والإحضار في حق المدين المنفذ ضده إلا حالَ إثباتِ ملاءته – أي يساره وقدرته المالية – أو إثبات تهريبه لأمواله من التنفيذ، وأن عبء إثبات هذين الأمرين يقع على طالب التنفيذ. وقد اقتفت دائرة القضاء – أبوظبي هذا النهج بعد قرار محكمة تمييز دبي ببضعة أشهر، حتى بات المشهد حالياً تندر فيه أوامر الضبط والإحضار، بل وزادت دائرة القضاء أبوظبي على ما سبق أن صدر فيها قرار بأن لا ضبطَ وإحضاراً إلا في مبالغ التنفيذ التي تجاوز 100,000 مائة ألف درهم، وهذا ما جعل صدور الأمر بالضبط والإحضار أقل وأقل.

ولا يخفى أن ما تقدم ذكره من حدث شهدته ساحة التنفيذ القضائي الإماراتية جاء بغية تحقيق أهداف معينة في المجال العدلي من أجل تقليل المحبوسين في السجون عموماً، وتقليل المحبوسين على ذمة القضايا المدنية خصوصاً، وهذا أمر له أسبابه الدولية الكثيرة التي تُخرج مناقشتها المقالَ عن مجاله وتبعده عن هدفه. ولكن ما تقدم لا يحول دون القول بأن تلك القرارات قد أثرت تأثيراً بالغاً على نجاعة التنفيذ القضائي، فحدّت منه، وقللت من سرعته، ومكّنت كثيراً من المنفذ ضدهم من إطالة آماد التنفيذ والاسترسال في المماطلة، وهو أمر لا بد من ذكره إبان التعرض لهذا الحدث.

وإذا كان الأمر كما تقدم، فإن التنفيذ القضائي قد أضحى معتمداً على إجراءات أخرى بديلة عن الضبط والإحضار الذي كان الوسيلة الأنجع والطريقة الأسرع نحو إلزام المنفذ ضدهم بالسداد، وهذه الإجراءات البديلة ظهرت في مسميات مختلفة منها: وقف وتجميد المعاملات لدى كافة الدوائر الحكومية، والحجز على الحسابات، والحجز على المركبات، والحجز على العقارات. وهذه معظمها إجراءات تنفيذية قديمة معروفة، لكن، بات التركيز عليها حالياً أكثر. ومن ثم يأتي هذا المقال من أجل النظر في تحسين هذه الإجراءات وتحسين القدرات التنفيذية للوصول إلى تنفيذ ناجز.

هذا ويجب بدايةً التنويه - مجدداً - إلى ضرورة التركيز على اللفظ الأول الوارد في تركيب "العدالة الناجزة"، وهو "العدالة"، فالمتعيّن هو تحقيقها أولاً، أما لنفظ "النافذة" محل الدراسة، أو غيره من ألفاظ مثل "الناجزة" أو "السريعة"، فكل ذلك نعت ووصف للعدالة، فالأصل هو العدالة، لا بد من تحقيقها، ولا شيءَ أهم من الوصول إليها، ثم بعد ذلك يمكن التحدث عن أي وصف يراد وصف العدالة به.

يأتي هذا الاستطراد في سبيل إعادة الأمور إلى نصابها، لأننا بتنا نرى كثيراً من الأساتذة والعاملين في المجال يهتمون بأوصاف العدالة أكثر من العدالة نفسها، وكأن تحقيقها بات أمراً حتماً مفروغاً منه، بينما الحق هو أن هناك مجالاً شاسعاً ومتسعاً رحباً للتحسين والتطوير في مضمار الوصول إلى العدالة نفسها، ناهيك عن إسباغ الأوصاف عليها، وأَولى عمل القانونيين بالعناية، هو تحقيق العدالة، ثم بعد ذلك يمكن النظر فيما يلحقها من صفات.

فإذا حققنا العدالة، فعندها يصح القول بأن العدالة ينبغي أن تكون نافذةً، أخذاً بقول سيدنا عمر رضي الله عنه في رسالة القضاء إذ قال: "فاقضِ إذا فهمت، وأنفذ إذا قضيت، فإنه لا ينفع تكلمٍ بحق لا نفاذ له". فقوله: "لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له" إشارةً إلى الأحكام التي تصدر ثم لا تُنفذ، فالأحكام أقوال، وهي في صورتها الحديثة أقوال تُكتب وتُدوَّن بصورة وعلى هيئة معينة، وهذه الأحكام لو صدرت على أحسن صورة وبأعلى بيان، ثم ختمت بمائة ختم ووقعت ألف توقيع، ما أفادت صاحبها شيئاً ما دامت غير ذات أثر حقيقي يتمثل بالتنفيذ. ومن هنا تقوم دعوتنا هذه إلى إيلاء التنفيذ قدراً معتبراً من الاهتمام، يوازي الاهتمام الذي أوليناه سرعة وتنجيز إصدار الأحكام، بل نرى أنه يتعين أن يزيد عليه ويفوقه، ثقةً منا بصحة السندات التنفيذية، كونها تصدر عن إجراءات وفحوص رصينة.

على هذا نقول، إننا ندعو إلى أن تكون دولتنا الأولى عالمياً في مجال تنفيذ الأحكام، بحيث تشتهر على الساحة الدولية بقوة إنفاذ القانون وسرعة تطبيقه، إذ لا يخفى أن هذا سيعود على الاقتصاد بفوائد جمة، لا سيما وأن المستثمر الأجنبي يهمه في القانون تطبيقه وأثره الواقعي، لا تنظيره وتأصيله، فهو تاجر (رجل أعمال) في نهاية المطاف، وليس قانونياً أو أكاديمياً يسعى للدراسة والبحث والتحصيل، ولن يعبأ بشيءٍ قدرَ ما يعبأ بتوريد المبلغ المنفذ من أجله إلى حساب شركته، فهذا هو المعيار الأهم لديه. وإن الدولة لها من الإمكانيات والقدرات ما يؤهّلها للخوض في هذه المنافسة، ويجعل تحقيق هذا الهدف أمراً غير عصي المنال، لا سيما ونحن في عصر الهوية الرقمية، والتوحيد التقني، وربط قواعد البيانات، فهذا يجعل من التنفيذ أمراً أيسر وأهون، ولذلك نرى ضرورة أن تستغل الدولة هذه المكنات الكبيرة وتوظفها قصدَ الوصول إلى هذه المكانة وبناء سمعة: "الدولة الأولى عالمياً في تنفيذ الأحكام".

ومن أجل الوصول إلى هذه السمعة والمكانة، وبناءً على ما لنا من خبرات في مجال التقاضي بحكم المحاماة، يمكننا طرح المقترحات الآتية حلولاً تنفيذية، وإجراءاتٍ يمكن تفعيلها في الملفات التنفيذية، لإجبار المنفذ ضدهم على سداد ما ترصد في ذممهم في أسرع وقتٍ ممكن:

المقترح الأول: إصدار أمر بالتوقيف (الضبط) دون الحبس، بحيث توقف الشرطة المنفذ ضدهم وتقتادهم إلى مراكز الشرطة، من أجل مواجهة قاضي التنفيذ، ويتعين على قاضي التنفيذ في هذه الحالات توجيه الأسئلة للمنفذ ضده عن إمكانياته المادية، وكيف يخطط للسداد، وجهة عمله، وأصوله، بغية إقناعه بالتوقيع على خطة تقسيط، وأداء ما تحت يده من أموال قد يكون يحملها في وقت التوقيف، ثم يُطلق سراح الموقوف، بما يعني أن الضبط يكون مؤقتاً، دون حبس، والهدف منه هو عرض المضبوط على قاضي التنفيذ من أجل إجباره على السداد الكلي أو الجزئي أو الحصول على تقارير دورية بشأن ملاءته وما إلى ذلك. والهدف من هذا النظام هو إشعار المدين بالمتابعة، وتفعيل دور قاضي التنفيذ، وإيقاع المدينين تحت شيء من الضغط النفسي للسداد، وهذه الفكرة وإن لم تكن بنجاعة وقوة أمر الضبط، إلا أنها خير من ترك المدينين يسرحون طلقاء، وهي ستؤثر على كثير من الناس الذين يهابون مقام القضاء ويخشون مراكز الشرطة، وهي بالحد الأدنى ستجعل حركة التنفيذ أكثر حيوية ونشاطاً.

المقترح الثاني: إذا وقع المدين في غرامات إدارية بسبب وقف وتجميد معاملاته، فهذه الغرامات ستخلق معضلة شائكة، إذ إنها سترهق المدين أكثر، وهي – أي الغرامات – مقدَّمٌ استيفاؤها على الدَّين المنفذ من أجله، وهذا يجعل المدين في حالة غرق في رمال متحركة، ومن هنا نرى ضرورة التفكير في طريقة يمكن من خلالها تقديم تحصيل الدين المؤدي إلى تجميد المعاملات على الغرامات المترتبة عن التأخر في تجديد المعاملات الحكومية بسبب تجميد المعاملات نظراً لعدم الوفاء بالدين، فالسبب ينبغي أن يكون دائما مقدَّماً على المسبَّب، ومعالجة المرض من أساسه أحرى وأحق من معالجة ما يترتب على ذلك المرض من أعراض تبعية.

المقترح الثالث: تقوية وتفعيل أمر الحجز على الحسابات المصرفية، إذ إن هذا الإجراء حالياً يبطؤ توقيعه، ولا تلتزم به بعض المصارف والبنوك بسبب تقصيرها في متابعة النظام الإلكتروني الخاص بالتنفيذ والمربوط بالمصرف المركزي. والرأي هنا أن يتم وضع المصارف تحت طائلة المسؤولية المباشرة في حال عدم الحجز والتحويل السريع للمبالغ التي لديها. ونرى كذلك ضرورة إلزام البنوك التي تملك حساباً أو حسابات للمنفذ ضده بأن تبلغ المحكمة بذلك متى وردها كتاب الحجز على الحسابات، وأن توافي المحكمةَ بشهادة الراتب إن كان يودع عنها، وأن تزودها بصورة من كشف الحساب البنكي عن آخر سنة. كما نقترح مخاطبة سائر البنوك في الدولة لإلزامها بعدم صرف أي شيك المستفيد منه هو المدين، والحجز على عائدات الشيك وتحويلها مباشرةً إلى حساب المحكمة المختصة، وذلك باعتبار مبلغ الشيك من قبيل مالاً للمدين موجوداً عند الغير.

المقترح الرابع: إدخال شركات الصرافة والتحويل قاطبةً في دائرة "الحجز على الحسابات"، وكذلك الأمر بالنسبة لشركات التمويل كافةً، بالإضافة إلى منصات بيع العملات الرقمية، مثل: Bit Oasis، وBinance، إذ القانون الإماراتي نظّم هذه المنصات وجعل ما تتداوله ذا قيمة مادية، ولذا ينبغي ألا نهمل المبالغ والودائع الكبيرة التي يحوزها الناس في هذه المنصات، ولا يصح تركها ملجأً وملاذاً لكل ذي دين مماطل.

المقترح الخامس: زيادة نسبة الحجز على الراتب إلى الثلث، والتعميم على قضاة التنفيذ بمخاطبة وزارة العمل (وزارة الموارد البشرية والتوطين) أو صندوق التقاعد فورَ قيد أي ملف تنفيذ من أجل معرفة جهة عمل المنفذ ضده، ومقدار راتبه، للتنفيذ عليه، دون حاجةٍ لطلب ذلك من قبل طالب التنفيذ، ونرى عند مخاطبة جهة عمل المدين، إبلاغها أيضاً بضرورة تحويل ربع أو ثلث مكافأة نهاية الخدمة لدى انتهاء خدمة المدين إلى محكمة التنفيذ، لأن مبالغ نهاية الخدمة حالياً تفلت في معظم الأحيان من أيادي المنفذين.

المقترح السادس والأخير وهو مقترح جريء بعض الشيء: تغيير نظام التراسل بالكلية، بحيث يُلغى نظام المخاطبات من المحاكم إلى الجهات الخارجية، ويُستعاض عنه بتسليم طالب التنفيذ شهادةً بسند تنفيذي مختوم برمز تسلسلي رقمي Barcode، ويقوم طالب التنفيذ هو شخصيا أو عبر وكيله بمراجعة كافة الجهات المختصة، مثل المصارف والشرطة والمصرف المركزي وجهات العمل (سواء الحكومية أو الخاصة) والوزارات والإدارات والأسواق المالية والبلديات، ويقدم لهم السند التنفيذي، وتتحقق تلك الجهات من صلاحية التنفيذ ومن كون التنفيذ مستمراً وفعالاً من خلال الرمز التسلسلي، ثم تحقق لطالب التنفيذ مباشرةً طلباته بحيث تسلمه المستندات التي يطلبها، مثل شهادة الراتب، أو كشف الحساب، أو كشف بالمركبات المملوكة، أو الرخص التجارية المملوكة، أو العقارات، حسب المقتضى. فالمشكلة الكبرى التي تعرقل وتبطئ التنفيذات وترهق القضاة ومأموري التنفيذ هي الكتب والمخاطبات المرسلة من وإلى المحكمة من شتى الجهات التي تُؤتمن على الأموال عقاراتٍ ومنقولات، وسيظل هذا العبء -أي التراسل - ثقيلا على عاتق إدارات التنفيذ ما لم يُحَلْ إلى جهة أخرى، وأي جهة أحرص على الحق من صاحب الحق ذاته (أو وكيله)؟

ومن هنا نرفع هذا المقترح للطرح والمناقشة، لأنه قد يغير من طريقة التنفيذ وسرعته وقوته، ويجعل محكمة التنفيذ تتفرغ للحجوز والبيوع بدلاً من المخاطبات والمراسلات وتعقّب الردود واستعجالها وما إلى ذلك. والأفضل في هذا المجال هو تمكين طالب التنفيذ من مراجعة أي جهة بهذا السند، لا جهات معتمدة محددة حصراً، وذلك لتمكين طالب التنفيذ من تفعيل فكرة "حجز ما للمدين لدى الغير"، فيمكن لطالب التنفيذ في حال تطبيق هذه الفكرة مخاطبة أي جهة كانت والاستعلام منها عما إذا كانت مدينةً للمنفذ ضده بأي مبالغ، ويجب عليها الإفصاح عن ذلك دون مواربة، ثم لطالب التنفيذ بعد ذلك أن يرفع ما حصل عليه من إفصاحات لقاضي التنفيذ ناشداً إصدار الأمر بالحجز على تلك الأموال، فهذا سيفعّل التنفيذ التجاري تحديداً، ويسرعه، ويخفف الشيء الكثير عن قضاء التنفيذ.

وعلى طالب التنفيذ توريد المخاطبات التي تصله إلى المحكمة مباشرةً من خلال تحميل ردود الجهات على النظام الإلكتروني بنفسه، وإذا كانت هذه الردود صادرة عن جهات رسمية، أو بنوك، فلا داعي للتحقق منها، لأن المحررات الرسمية حجة على الكافة، ولا يجوز الطعن فيها إلا بالتزوير، وهذا متروك ومتاح لصالح المنفذ ضده.

ولا يقالَنَّ في مواجهة ما سبق أنه يهتك أستار خصوصية المدين المنفذ ضده، إذ إن المدين المنفذ ضده هو من أوقع نفسه في هذا الموقف عندما امتنع عن أداء ما ألزمه به القانون إلزاماً مدنياً، كما أن طالب التنفيذ لا يستفسر عن معلومات شخصية خاصة، وإنما عن معلومات مالية يُبتغى من ورائها تحديد الضمان العام والوصول إلى أموال المنفذ ضده ومعرفة ما إذا كان مليئاً من عدمه، مهرّبا لأمواله أم لا، فالعمل وفق ما تقدم لا يخرج عن القاعدة العامة في التنفيذ والتي يُعبر عنها بأن "كل أموال المدين تعد ضماناً للوفاء بديونه". كما أن الدائن طالب التنفيذ سيكون مسؤولاً عن حسن استعمال ما تحت يده من سند تنفيذي ومعلومات، ملزماً بالحفاظ على السرية، وحاله في ذلك مثل حاله اليوم حسب الوضع الراهن، إذ الدائن يطلع على ردود الجهات المختلفة التي تُرسل لمحكمة التنفيذ ومن ثم يتصل علمه ببعض المعلومات المالية الخاصة، بما يعني أن الوضع لن يتغير في شق حماية البيانات عمّا هو عليه اليوم، وسائر ما سيحصل هو تحسينٌ لنظام التراسل وتسريع له وتمكين لطالب التنفيذ من المراجعة الشخصية بدلاً من أن تتولى المحكمة هذه الأعمال.

 

بقلم:

أحمد محمد بشير | مكتب أحمد محمد بشير للمحاماة والاستشارات القانونية

Chat
Hire
Meet
Was this content helpful?
Fixed-fee services
2 2 available services •  View All
Search by word
Are you a lawyer?
Be found. Register with us and get new leads every day.
Register
Looking for something else?
Ask for advice from a lawyer
It’s free and anonymous
No registration needed
Ask a lawyer